نهاية الواقعية المهادنة كأسلوب في التدافع السياسي ( ملاحظات من أجل الإنقاد)   
مقالات - مركز أفق المستقبل للاستشارات - 19/09/2021
2641 مشاهدة
pdf


 


كتب الدكتور : محمد طلابي / المحمدية/13/9/2021

مقدمة نظرية في أساليب التدافع:

تنحصر أساليب العمل السياسي في مدرستين كبيرتين: المدرسة السياسية الواقعية والمدرسة السياسية الرومانسية.

المدرسة الواقعية هي تلك المدرسة التي تدخل في نشاطها السياسي الواقع الموضوعي للفاعلين السياسيين من حيث القوة والضعف في ميزان التدافع.ومن حيث التحالفات الممكنة.وعلى أساس قوتك في ميزان التدافع تضع خطتك في العمل السياسي.(خطة واقعية).

اما المدرسة الرومانسية الثوروية فلا تعطي اعتبارًا للواقع الموضوعي ولا لميزان القوة في التدافع، فيكون نضالها في الغالب مبني على أحلام رومانسية كما هو حال العدل والإحسان وبقايا اليسارالماركسي المغربي وبعض التيارات الأمازيغية المتطرفة.

لكن المدرسة الواقعية نفسها تنقسم إلى ثلاث مدارس كبرى:

مدرسة واقعية مناضلة ومدرسة واقعية مهادنة ومدرسة واقعية مفلسة.

الواقعية المناضلة تدخل في حسابها السياسي الواقع الموضوعي وميزان القوة،لكن تعمل على تغييره بتبني أساليب الضغط الجماهري كنهج استراتيجي للتغير.

أما الواقعية المهادنة فهي أيضا تدخل ميزان القوة الموضوعي في حسابها السياسي ، لكن تعمل على تغييره بتبني أسلوب التوافقات في التغيير بدون ضغوطات جماهيرية في الغالب.

وقد تتحول الواقعية المناضلة إلى تدافع مفلس،وقد تتحول الواقعية المهادنة إلى تدافع سياسي مفلس يتنج حصيلة سياسية سالبة في المجتمع والدولة. وتنتهي بالانغماس السلبي في الواقع الموضوعي،أوالانكماش والعزلة عن الواقع الموضوعي.

وبالتأكيد الرومانسية الثورية أسلوب مفلس في جل الأوضاع.

فالواقعية المناضلة المفضية إلى العقم السياسي في الوطن تتحول إلى واقعية مفلسة،ونفس الشئ بالنسبة للواقعية المهادنة،فإذا أصبحت التوافقات غير مثمرة سياسيًا تحولت إلى واقعية مفلسة.

ومن هنا تأتي أهمية الوعي السياسي بجدلية الواقعية المناضلة والواقعية المهادنة،والنباهة السياسية للحظات الانتقال التاريخي للحزب السياسي المصلح من أحداهما إلى أخرى. فعدم الوعي بلحظات التحول والانتباه لها قد يحدث كوارث سياسية للأوطان وأحزابها الوطنية الجادة.

-   الواقعية المناضلة في جيلين أثمرت هامش ديمقراطي معتبر.

فالواقعية المناضلة في جيلها الأول (1956/1996)أثمرت هامش ديمقراطي معتبر باعتماد أساليب الطغط الجماهيري.

 في جيلها الثاني مع الربيع الديمقراطي وحركة 20فبراير ضاعفت الهامش الديمقراطي مرتين ويزيد(2011).

 فسنة واحدة من أساليب الضغط الجماهيري في الجيل الثاني عادلت 40 سنة في الجيل الأول.وهذا هو مكر التاريخ.الذي على القيادة السياسية المبصرة الانتباه إليه في التدافع على المدى القصير والمتوسط والبعيد المدى.

تزامن ميلاد حزب العدالة والتنمية مع ميلاد (الواقعية المهادنة).

 بعد دستور 1996 و مجيئ حكومة عبد الرحمان اليوسفي 1997  تخلت  الحركة النضالية اليسارية وعمودها الفقري الحركة الاتحادية عن الواقعية السياسية المناضلة لصالح الواقعية المهادنة.فتخلت عن رفضها لللاءات الثلاث:لا لصندوق النقد ، ولا للتعامل مع الأحزاب الإدارية المخزنية ، ولا للخصخصة.

فأصبحت نعم ثلاث. و دخلنا عصر التوافقات بين العقل السياسي الرسمي والعقل السياسي المعارض بعد 40 سنة من الصراع.

ولقد تبنى حزب العدالة والتنمية الواقعية المهادنة كأسلوب استراتيجي في التدافع السياسي تجاه سلطة الدولة.وذلك لعوامل ثلاث: أولها دخول أحزاب المعارضة جيل الواقعية المهادنة.وثانيها الوعاء الأيديولوجي والسياسي للإسلاميين. ثالثها الوعاء التنظيمي والسياسي للحزب المضيف:(الحركة  الشعبية الدستورية).

و مازات الواقعية المهادنة كأسلوب تدافع عند الجزب هي النهح حتى الآن.رغم أن الواقع تجاوزها منذ إقالة عبد الإله بنكيران كرئيس للحكومة سنة 2016. هذه السنة في تقديري كانت لحظة الانتقال من الواقعية المهادنة إلى الواقعية المناضلة.أي الانتقال إلى موقع المعارضة..وكانت نتائجه السياسية ستكون هائلة لانها معارضة من موقع القوة السياسية الهائلة. نظرًا لعدد المقاعد والمجالس البدية التي حازها الحزب في الانتخابات. في تقديري من هنا بدأ الخطأ الاستراتيجي الذي من نتائجه المرة هذا الانكسار الكبير للحزب اليوم.

طبعا كان قرارًا صعبًا اتخاده لهيمنة الواقعية السياسية المهادنة على مطلق قيادة الحزب  والحركة.وقطاع لابأس به عند القواعد. فرسوخ أيديولوجية المهادنة تعمي الأبصار وتفل العزائم.

 لكن مع ذلك علينا حساب فائدة هذا الأسلوب في النضال المهادن في وقته..فما هي مكاسب الواقعية المهادنة عند حزب العدالة والتمنية على الذات والوطن. فخصومة الحزب للمعارضة اليسيارية في البداية وعدم الاصطدام مع النظام أعطى فرصة للتوسع التنظيمي والسياسي البطيئ للحزب بدون معيقات من الدولة ما دام ذلك غير ضار بالنظام سياسيا.

كما أن اختيار الحزب والحركة  الطريق الثالث إبان حركة الربيع الديمقراطي المغربي( الإصلاح في ظل الاستقرار) أثمر إصلاحًا سياسيًا ودستوريًا معتبرا بدون مجازر وانكسارات سياسية ضخمة كما حدث في المشرق العربي وليبيا .فهذا ثمرة في غاية الأهمية أنجزتها الواقعية السياسية المهادنة عند الحزب والحركة معا يجب تسجيلها بفخر.

 لكن الصعود السياسي الصاروخي للحزب.أدى إلى هلع سياسي رسمي مبطن أثناء الرياح العاتية  للربيع الديمقراطي.ثم أصبح عداء معلنا من طرف الطبقة السياسية المغربية بكاملها تقريبا عند توقف هبوب رياح الربيع الديمقراطي وتوقفها المؤقت اليوم.

 هذه ثمرات أسلوب التدافع السياسي المبني على الواقعية المهادنة إلى حدود 2016.

 نعيد التأكيد أن مصدر الصعود الصاروخي لمركب الحزب بعد 2011 هي رياح الربيع الديمقراطي والربيع الإسلامي العاتية في المنطقة العربية.فحزب العدالة والتنمية كان مركبا تدفعه الرياح السياسية بدون محرك ذاتي.

أهمية بناء المحرك الذاتي لمركب الحزب اليوم لإخراجه من غرفة الإنعاش) فريح الديمقراطية وريح الإسلام) كوجدان جمعي في كل المنطقة العربية كانت هي قوة الدفع للحزب إلى غاية 2016.هذا العكاز انكسر اليوم بعد توقف هبوب هذه الريح بعد انكسار الربيع الديمقراطي.

 وهذا يفرض على الحزب بناء محركه الذاتي.

 هو رأسًا الانتقال من التدافع بأسلوب الواقعية المهادنة إلى التدافع بأسلوب الواقعية المناضلة.فالواقعية المهادنة أصبحت أسلوب تدافع مفلس.ونتائجها بارزة اليوم في تآكل المجتمع الحزبي بالمغرب لصالح المجتمع المدني الذي أصبح الحامل لراية الاحتجاج السياسي.بعد أن كان المجتمع الحزبي هو الحامل لها قبل الربيع خلال النصف الثاني من القرن 20.( مثل حراك الريف.مقاطعة اامنتحات وغيرها).

بل إن دخول الحزب بعد الانكسار الكبير موقع المعارضة حتمي.والاستمرار في تبني الواقعية المهادنة القائم على أسلوب التوافقات مع النظام والطبقة السياسية شبه مستحيل.والاستمرار فيه في نظري انتحار للحزب في العشرية المقبلة.فالحزب مرغم على تبني الواقعية المناضلة التي تعتمد أساليب الضغط الجماهيري حسب ما تسمح به القوانين.هذه هي الطريق لإخراج الحزب من غرفة الإنعاش خلال العشرية المقبلة.

ومن ملامح الواقعية المناضلة اليوم الاستثمار السياسي المبصروالمقدام في هذه الظاهرة السياسبة الجديدة.( ظاهرة صعود المجتمع المدني). وهي بالمناسبة ظاهرة عالمية أعطت زعامات لاانتماء حزبي لها. كما هو الشأن في تونس وأكرانيا وماكرون في فرنسا وغيرىها.

 هذا الاستثمار بخطة استراتيجية ستساعد حزبنا على الخروج من العزلة التي يعانيها داخل الطبقة السياسية اليوم.فيكبر في عين الخصوم في مقبل السنوات.وتنتج حلفاء جدد قد تفرزهم حركة المجتمع المدني في مسار العشرية المقبلة.

فالعودة إلى التراث والنفس النضالي للشعب المغربي في القرن الماضي ضرورة تاريخية و سياسية لإتمام مهام الإصلاح الديمقراطي الذي بدأ مع دستور 2011.والأمر هذا يهم أيضا بنفس المقدار حركتنا العتيدة.حركة التوحيد والإصلاح.

الواقعية المناضلة تفرض على الحزب توجيه البوصلة إلى  أسفل نحو المجتمع المدني العميق كأولوية بدل التركيز فقط على المجتمع الحكومي والحزبي في عمل الحزب.بل يجب  استثمار تآكل المجتمع الحزبي وتنامي حركة المجتمع المدني بذكاء ساسي ينقد الحزب من الموت على المدي البعيد.وموت الكيانات السياسية هي تحولها إلى هياكل تنظبمة كأشجار خاوية على عروشها.

 ومن سمات الواقعية المناضلة  انسحاب الجيل الأول  بالتدرج وبمقدار وسلاسة أمدها عشرية كاملة.لتصبح قيادة الحزب الوطنية والجهوية والمحلية  في هذه العشرية جيل جديد أشرب في قلبه الواقعية المناضلة. فهي ضرورة تاريخية ليربي الحزب ريشه بعد هذا النتف الشديد اليوم.

  فالحديث عن الصقور والحمائم داخل الحزب مغالطة. فهما سيان إلا في مسألة الشخصية الكارزمية.وهي ذات الأهمية الفائقة طبعا في العمل السياسي وأثرها الملهم السالب أو الموجب على الرأي العام المغربي كما  جربناها في مرحلة المناضل عبد الإله بنكيران.

فكلا التيارين عجينة واحدة دقيقها الواقعية المهادنة المخبوزة منذ ربع قرن من الزمان.و في تقديري كلا الطرفين مطالب  بالانسحاب التدريجي وبسلاسة من القيادة خلال العشرية المقبلة

وبعد العشرية المقبلة قد تصبح الضرورة التاريخية والسياسية تفرض العودة من جديد إلى الواقعية المهادنة كنهج السياسي غير مفلس.دون التفريط في نهج الواقية المناضلة.فليس هناك خط مستقيم في النضال.بل هو خط جدلي لولبي بالضرورة.مدبر مقبل صاعد نازل...


فتبني استراتيجية المعارضة لعقد من الزمان(حتى2030). بمشروع سياسي واقعي يعمل على إتمام مهام الإصلاح الديمقراطي الذي انطلق مع حركة 20 فبراير. والذي عنواه الرئيسي ( إعادة توزبع السلطة وإعادة توزبع الثروة توزيعا عادلا). وبنهج يتبنى أساليب الضغط الجماهيري؛ سيخرج الحزب من عزلته الخانقة تحدث له  تحالفات جديدة في مسيرة النضال..فكل الأحزاب وحتى الدولة اليوم تعتبر حزب العدالة والتنمية خصما إن لم يكن يعتبر عند بعضهم  عدوًا.

وسيصبح بقوته النضالية الوسطية المتحررة من الرومانسية الثورية المفلسة كما هو نهج العدل والإحسان واليسار المغربي والتيار الأمازيغي المتطرف. ومتحررة من الواقعية المهادنة  المفلسة كما هو حال باقي الأحزاب.سيصبح قوة متجذرة لما بعد ثلاثينات القرن.

 ومن خصائص الواقعية المناضلة المبصرة مراعاتها الشديدة  للقضايا العميقة في  الوجدان الجمعي عند المغاربة.بلا خدش أو هتك لها..كما حدث في مسألة التطبيع  والتراجع عن التعريب والمس بالقيم الدينية العميقة كما حدث مع مسألة الكيف المحرم شرعا. فهي قرارات مست الوجدان الجمعي العميق للمغاربة وليس السطحي.عند ذلك  سيصبح الحزب قوة يحسب حسابها بإذن الله.

 أضف إلى ذلك الحذر ثم الحذر في  المس بمصالح المشروعة للطبقة الوسطى؛ باعتبارها المخزون الاستراتيجي للحزب. أوالتصادم المجاني معها.فمصالحها الشرعية مسألة مركزية في البرنامج الحزبي.

 ومن  صفات الواقعية المناضلة أيضا تجنب نهج سياسة الصمت اتجاه قضايا السعب الحيوية في العيش الكريم والكرامة وما أدراك ما الكرامة.كالصمت  تجاه ما حدث من الخروقات لحقوق الإنسان والصحافة .والصمت تجاه الاعتقالات الفاضحة للمناضلين والإعلامين...وما حدث لمناضلي الحراك الاجتماعي في منطقة الريف وجرادة. و الحركة النضالية عند الأطباء والأساتذة...وغيرها.

 وأيضا  لا بد من التواضع الفكري عند قادة الحزب والتحرر من كثير الغرور السياسي الذي دل على بعض الفقر في الرشد السياسي الاستراتيجي.فكثير من أفكار شعبنا أعمق من أفكار بعض قيادة حزبنا.

وفي تقديري أن التصويت العقابي و عدم التصويت العقابي معا (المقاطعة العقابية) لشعبنا تجاه الحزب دليل على يقظة هذا الشعب العظيم وذكائه.ليس اليوم فقط بل حتى في القرن الماضي.فهو ذكي ومقدام وكريم سياسيا .هذه قضية على الحزب حسابها بدقة في مقبل السنوات وهو يناضل.فالوعي والإحساس الرهيف بنبض الوجدان الشعبي العميق للمجتمع وحسبانه في الموقف النظري والعملي بالغ الأهمية في تجذر الحزب في مقبل السنوات.

 




أرسل رسالتك

موضوعات ذات صلة

الكلمات الدلالية

الملفات المرفقة

يحصل الأعضاء المشتركون في الموقع على الخدمات بشكل دوري خلال فترة العضوية مقابل اشتراك رمزي

اشترك الآن مشترك موجود
ارسل
عن الكاتب

مركز أفق المستقبل للاستشارات

- مركز أفق المستقبل للاستشارات